امابعد فإن حادثة الكسوف لاينبغي أن تمر هكذا دون تدبر وتأمل في أسبابها ونتائجها ومن هنا كان لابد من بيان بعض الأمور المتعلقة بالكسوف
الأمر الأول : العلم بوقت الكسوف ليس من أمر الغيب بل يمكن إدراكه بالحساب فيمكن للفلكيين أن يعلموا بوقت الكسوف قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – المتوفى سنة728 :إذا تواطأ الحساب على وقت الكسوف فإنهم لايكادون يخطئون.إنتهى
الأمر الثاني: ماهو سبب الكسوف ؟ الكسوف له سببان حسي وشرعي أما السبب الحسي في كسوف القمر مثلا فهوأن الأرض تحول بين الشمس والقمر فإن النور الذي على القمر هو من نور الشمس فإذا أذن الله بكسوف القمر حالت الأرض بين الشمس والقمر فحجبت نورالشمس أن يقع على القمرفيحدث الكسوف بإذن الله.
هذا هوسبب الكسوف المحسوس لدينا لكن ماهوسبب الكسوف الشرعي الجواب هو ماقاله أصدق القائلين سبحانه: (ومانرسل بالآيات إلا تخويفا) والشمس والقمر من آيات الله والتخويف هو من العذاب الذي يخشى أن يقع بالناس بعد هذا الكسوف وقد ذكرشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الكسوف ثم قال:فذكر صلى الله عليه وسلم أن من حكمة ذلك تخويف العباد كما يكون تخويفهم في سائر الآيات كالرياح الشديدة والزلازل والجدب والأمطار المتواترة ونحو ذلك من الأسباب التي قد تكون عذابا كما عذب الله أمما بالريح والصيحة والطوفان قال تعالى (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
وقد قال: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)
وإخباره بأنه يخوف عباده بذلك يبين أنه قد يكون سببا لعذاب ينزل. انتهى
وقال- أيضا-: وهذا بيان منه صلى الله عليه وسلم أنهما-يعني كسوف الشمس والقمر- سبب لنزول عذاب بالناس. انتهى
وقال- أيضا-: والتخويف يتضمن الأمر بطاعته والنهي عن معصيته.انتهى
قال ابن القيم- رحمه الله- : يحدث الله – سبحانه- عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم ويجعل الكسوف سببا لذلك ولهذا أمر النبي صلى الله عليه و سلم عند الكسوفبالفزع إلى ذكر الله والصلاة والعتاقة والصدقة والصيام لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسف الذي جعله الله سببا لما جعله فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر بدفع موجبه بهذه العبادات ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قام به أو يقلله أو يخففه فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذى جعل الله الكسوف سببا له أو بعضه ولهذا قل ما تسلم أطراف الأرض حيث يخفي الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف وتسلم منه الأماكن التى يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقل فيها جدا.انتهى.
إذن معاشر المسلمين: العلم بزمن الكسوف لايعارض ماجعل الله هذه الآيات سببا له من التخويف لكي نتوب ونرجع إلى ربنا عزوجل ولذا كان أعلم الناس بربه وأخوفهم له محمد صلى الله عليه وسلم إذا رأى الكسوف خرج فزعا يخشى أن تكون الساعة ثم صلى صلاة طويلة طويلة حتى كان بعض الصحابة يغشى عليه من طول القيام يقول جابر-رضي الله عنه- فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأطال القيام حتى جعلوا يخرون. رواه مسلم
وكان صلى الله عليه وسلم يبكي في سجوده في صلاة الكسوف ويقول: رَبِّ لَمْ تَعِدْنِي هَذَا ، وَأَنَا أَسْتَغْفِرُكَ , لَمْ تَعِدْنِي هَذَا وَأَنَا فِيهِمْ.
تقول عائشة رضي الله عنها مارأيته ركع ركوعا أو سجد سجودا أطول منه. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته هذه الجنة وعرضت عليه النار فرأى فيها امرأة تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض ورأى فيها عمرو بن لحي الخزاعي الذي دعا إلى عبادة الأصنام يجر قصبه في النار.
معاشر المؤمنين إن ماسبق ذكره يدل على عظم خوف النبي صلى الله عليه وسلم من الله وعلمه بأن الكسوف تخويف من العذاب وكذلك كانت حال أصحابه رضي الله عنهم فالسلف رحمهم الله جمعوا بين العمل الصالح والخوف من الله أما نحن فجمعنا بين المعاصي وقلة الخوف من الله قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ماكانو يكسبون).
قال الحسن البصري رحمه الله:هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب ويموت.
الخطبة الثانية:
أما بعد فاتقوا الله عباد الله ولنقلع عن الذنوب ففِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أنه قال : لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.
وخطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس بعد صلاة الكسوف فكان مما قال: ياأمة محمد مامن أحد أغير من الله أن يزني عبده أوتزني أمته, يا أمة محمد لو تعلمون ماأعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا ثم رفع يديه فقال ألا هل بلغت.
قال ابن القيم رحمه الله: وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِخُصُوصِهَا عَقِبَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ سِرٌّ بَدِيعٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ ، وَظُهُورُ الزِّنَى مِنْ أَمَارَاتِ خَرَابِ الْعَالَمِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي ، سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَى وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ .
وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الزِّنَى يَغْضَبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ ، فَلَا بُدّ َأَنْ يُؤَثِّرَ غَضَبُهُ فِي الْأَرْضِ عُقُوبَةً.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَى فِي قَرْيَةٍ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ بِإِهْلَاكِهَا .انتهى
عبادالله لقد ضل أقوام فقالوا:إن الكسوف أمر عادي طبيعي عرفنا سببه بعد تطور العلم.
سبحان الله!! أما كان هذا السبب الحسي موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكره ولم يلتفت إليه وهو الذي لاينطق عن الهوى.
إن هذا الكلام لايقوله من يؤمن بالله حقا , وهذا الزعم وهو أن الكسوف أمر عادي قد رده أهل العلم ومنهم العلامة ابن عثيمين رحمه الله حيث قال: وفي قوله صلى الله عليه وسلم :افزعوا حينالكسوف مايدل على أنه لابد أن نشعر بالخوف حتى يتحقق الفزع إذ لافزع بدون خوف وعلى هذا تكون الدعوة إلى عدم الخوف عند الكسوف من المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
إن الذين يبارزون الله بالمعاصي وهم يرون الكسوف فلا يخافون ولايتوبون يخشى أن يصدق عليهم قوله تعالى: (ونخوفهم فمايزيدهم إلا
طغيانا كبيرا)
اللهم لاتؤاخذنا بذنوبنا ولابمافعل السفهاء منا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق